سورة النساء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)}.
التفسير:
رأينا في الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة اللّه فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا.
وهنا في هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها اللّه من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة.
فيقول سبحانه. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.
والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو في مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ.
والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى اللّه رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده اللّه سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هى ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [1- 2: القيامة].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135: آل عمران] فالعلم هنا مقابل للجهالة في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ}، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى اللّه منه.
وقد مدح اللّه هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه.
فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
وفى قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم اللّه، فيهجمون عليها في غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، في صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى اللّه، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو في خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب في ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه اللّه سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: {حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [90- 91: يونس].
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر باللّه هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان باللّه الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر!! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى اللّه، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم في الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت في وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شيء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)}.
التفسير:
فى مقام التوبة، والتنديم على الذنوب والآثام، والرّغب إلى اللّه، والهرب من المآثم- في هذا المقام يذكّر اللّه سبحانه وتعالى بالنساء وما لهن من حقوق، وما في اهتضام هذه الحقوق والعدوان عليها من إثم يفسد على المؤمنين إيمانهم، ويعرضهم لنقمة اللّه، وعذاب اللّه.
فمن ذلك، الالتواء في معاشرة النساء، وأخذهنّ بالضرّ والأذى، للوصول من وراء ذلك إلى عرض من أعراض الدنيا، بحملهن على شراء الخلاص لأنفسهن بما يريده الأزواج منهن من ثمن.
فقد تكون المرأة غير ذات حظوة عند الرجل، وقد يكون الرجل كارها لها وهى كارهة له، ومع هذا فهو يمسكها، ولا يسرّحها بإحسان، كما أمر اللّه سبحانه وتعالى: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} [229: البقرة].
وهذا الإمساك للمرأة والمضارّة لها إنما يبغى الرجل من ورائهما أن تموت وهى في عصمته، حتى إذا ماتت ورثها. وهذا ما نهى اللّه عنه، وعدّه عدوانا على المرأة إذ يقول سبحانه: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً}.
وقد ينتظر الرجل من وراء هذا الإمساك بالمرأة على كره، أن تخالعه المرأة على ما في يدها من مهر كان أمهرها إياه، ولا تزال نفسه متطلعة إليه.. وهذا ما ينهى اللّه سبحانه وتعالى عنه بقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ}.
والعضل الإمساك على الضرّ والأذى.
وقوله تعالى {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} هو استثناء من الإمساك الذي هو من بعض مفاهيم العضل، ففى هذه الحالة، وهى أن تأتى المرأة بفاحشة قامت عليها بيّنة- يجوز أن يمسك الرجل المرأة، تأديبا لها، فهذا الإمساك وإن كان عدوانا على المرأة، هو عدوان لردّ عدوان، وهو ما أجازه اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [194: البقرة] ثم هو- أي العدوان هنا- إمضاء لأمر اللّه تعالى في اللائي يأتين الفاحشة من النساء.
وذلك في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.
وفى قوله تعالى: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} دعوة إلى ما ينبغى أن تكون عليه حياة المرأة مع الرجل، وهو أن تعاشر بالمعروف، وأن تعامل بالإحسان، حتى وهى مأخوذة بجريرتها التي قضت عليها بالإمساك في البيت.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وصية كريمة من اللّه، بالإحسان إلى المرأة، أيّا كانت نظرة الرجل إليها، وموقعها من قلبه.. فقد لا يجد في عشرته معها، والسكن إليها، ما يشرح صدره، فيحمله ذلك على الضجر بها، والتبرم منها، فيسىء عشرتها، ويرميها بالأذى، حتى يحملها على أن تترضاه من مالها ليطلقها.. وهنا يلقاه قوله تعالى: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
فيتقبل هذا المكروه، ويصبر عليه، ثم ينجلى الموقف عن غير ما كان يحسب ويقدر، وإذا المرأة التي كان يكرهها قد علقت بقلبه، وملأت حياته أنسا ومسرّة.
فإنه ما أكثر أن تجىء الأمور على غير حسابنا وتقديرنا. فما نحسبه خيرا قد يجىء من ورائه الشرّ، وما نراه مكروها قد يجىء بما نحبّ ونرضى! وفى هذه الوصاة الكريمة، تنفير من الطلاق، وتحذير من المبادرة إلى هوى النفس، الذي يدعو إلى الطلاق، على حساب أنه الخير، وقد يكون الشرّ كلّه كامنا وراءه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}.
هو استكمال للوصاة التي أوصى اللّه بها الرجال بالنساء.. ألا يرثوهن كرها أو يعضلوهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن يصبروا على ما يشعرون به من ضيق أو أذى منهن، فقد يكون من وراء ذلك خير كثير.
ثم إنه إذا لم يكن بد من الفرقة والطلاق، فليكن كما أمر اللّه: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} فلا يعمل الرجل على أن يستردّ مما أعطاها من مهر شيئا، وألا يحملها حملا على أن تخلص من بين يديه، وأن تفتدى نفسها من عشرته بالمال.
وليقف عند أمر اللّه سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} إن ذلك عدوان عليها، وسلب لحق وقع في يدها.. {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} فذلك ما ينكره اللّه، ويجزى عليه جزاء الآثمين.. والبهتان: هو العدوان، وتبرير هذا العدوان بطلاء زائف من التمويه والخداع.
وفى قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} إنكار بعد إنكار لأن تمتد يد إلى هذا الذي في يد المرأة، التي أصبحت هى ومالها أمانة في يد الزوج.. فكيف يخون الرجل أمانة من عاشره، واختلط به، وأصبح في حال ما، بعضا منه؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ}.
والإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، والتغلغل في صميمه.
والميثاق الغليظ: هو العهد القوىّ المؤكد، وهو ما أخذه اللّه على الرجال للنساء في قوله تعالى: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
وقد وضع اللّه هذا الميثاق الغليظ المؤكد في يد المرأة. ليكون لها أن تقاضى الرجل به عند اللّه! وفى هذا تغليظ لهذا الميثاق الغليظ!


{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)}.
التفسير:
بعد أن بين اللّه سبحانه وتعالى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة بين الرجل والمرأة من توادّ وتعاطف وتراحم، وأن تصفو من الكيد، وتبرأ من الدّخل وتبييت السوء، حتى تتآلف تلك الخليلة الأولى في الجسد الاجتماعى، وتتلاحم، وتصبح قوة عاملة في الحياة لخيرها، ولخير المجتمع كله.
بعد هذا البيان الكاشف للحياة الزوجية، وللأسس السليمة التي ينبغى أن تقوم عليها- جاء بيان سماوى آخر يقيم الحدود بين ما يحلّ وما يحرم على الرجال من النساء، حتى إذا رغب الرجل في الزواج من امرأة تخيرها من بين من أحل اللّه له منهن! وقد يبدو- في ظاهر الأمر- أن الترتيب الطبيعي كان يقضى بأن يجىء البيان الخاص بالحلّ والحرمة أولا، ثم يجىء بعد ذلك ما يوصى به في المعاشرة بين الزوجين، بعد أن يصبحا زوجين. هكذا يبدو الأمر في ظاهره! ولكن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يرفع نظرنا فوق هذا المستوي الذي ننظر منه إلى الأمور ونزنها به.
فليست مشكلة الحياة الزوجية في التعرف على من تحلّ ومن تحرم من النساء لمن يرغب في الزواج، فذلك أمر لا يحتاج إلى أكثر من إشارة، تخطّ خطا فاصلا بين الحلال والحرام.. بل إن الأمر لأهون من هذا.. فالحلال بينّ والحرام بينّ، والمشكلة كلها في التزام الحلال، وتجنب الحرام.
ومشكلة الحياة الزوجية ليست الزواج، ولكن فيما بعد الزواج، وفى القدرة على الوفاء بالحقوق والواجبات فيها!
من أجل هذا، كان هذا الإلفات الكريم من اللّه أولا إلى ما بعد الزواج، إذ هو ملاك الأمر كله، وعليه تبنى الحياة الزوجية، ويجنى منها الثمر الطيب المرجو فيها.
وإذن فليكن في حساب الرجل أولا إعداد نفسه إعدادا كاملا لحمل هذه الأمانة العظيمة التي سيحملها، وليروّض نفسه مقدّما على الصبر والاحتمال، والتنازل عن كثير من حياته الخاصة، ليصل بما يقتطع من تلك الحياة حياة جديدة، تقوم بينه وبين شخص آخر، جاء يشاركه حياته، وينازعه وجوده الذاتي الفردىّ.
أما ما بعد ذلك- وهو الزواج- فأمره هين.. فالنساء كثيرات وله فيما أحلّ اللّه له منهن ما لا حصر له.. فليختر منهن من يشاء، ولكن الحذر الحذر كله، والمحظور المحظور جميعه، فيما بعد الزواج! وقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} بيان لأول ما يحرم على الإنسان التزوج بهن من النساء.. وهى امرأة الأب.
إذ هى بمنزلة الأم، ثم هى من جهة أخرى بمكان الأب من الاحترام والتوقير.
فكيف تقبل نفس كريمة أن تكون امرأة الأب- وهذا شأنها- زوجا بعاشرها، وتكون يده فوق يدها؟ أو حتى تكون يده مع يدها؟
وفى التعبير القرآنى عن زوجات الآباء بكلمة ما التي تدل على الإبهام والتنكير- ما يشير إلى أن هؤلاء الزوجات ينبغى أن يكنّ في نظر الأبناء، وفى شعورهم شيئا مبهما غامضا، لا تتملّاه العين، ولا تتفحصه، ولا تقيم له حسابا فيما يقام من حساب بين الرجل والمرأة! إنهن- بالنسبة للأبناء- شيء محجب وراء ستر كثيفة من التحرج والتأثم، فلا يكاد يقع في تصور الأبناء صورة سويّة لهنّ كصور النساء اللاتي يريدون الزواج بهن! وقوله تعالى: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} استثناء وارد على ما وقع في الجاهلية من رجال دخلوا في الإسلام، ووقعوا في هذا المنكر.. فإنه لا إثم عليهم الآن بعد أن صححوا وضعهم، وأخذوا بما جاء الإسلام به.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا} تشنيع غليظ على هذا المنكر، وإلقاء بكل ما في الفاحشة والمقت وسوء العاقبة من ثقل وبلاء على من يقارف هذا المنكر، ويركب ذلك الضلال السفيه!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8